المتشردة
وقفت أمام بائع الساندويتشات تنتظر دورها وعيناها الغائرتان مصوبتان نحو بعض الزبائن الجالسين داخل المحل، كانت تتابع حركات أفواههم وهي تلتهم قطع الساندويتش بشراهة، فيتدفق لعابها اللزج من بين شفتيها، وسرعان ما نفذ صبرها فصاحت في وجه البائع صيحة أسقط على إثرها قطع البطاطس من بين يديه، ثم ابتسم وهو يشير لها بيده مهدّئا :
- أهلا عويشة..راني ما شفتكش..هانا غادي نْسَبْقكْ غير صبْري.
همهمت بصوت متقطع وهي تدفع بأحد الشبان الواقفين أمامها جانبا وتأخذ مكانه، ثم تسلمت سندويتشها وغادرت المكان تلاحقها نظرات صاحب المحل وزبائنه وابتساماتهم، كانت عويشة سيدة في العقد الرابع من عمرها، نحيلة الجسد، طويلة الظفائر، ترتدي بعض الخرق الممزقة والأسمال البالية، غير أنّ وجهها لا يخلو من آثار مسحة جمال بائدة، يبدو ذلك جليا من عينيها الكبيرتين وحاجبيها المرسومين بوضوح ودقة، كل شيء مرّ في حياتها لم يكن من اختيارها، إلاّ الجنون، فهو الشيء الوحيد الذي لم يفرض عليها، فقد اختارته بمحض إرادتها كما يروي بعض من عرفها من عمال ورواد محطة ولاد زيان بدرب السلطان، اختارت عالم الجنون هربا من قساوة عالم العقل المتضمّن لكلّّّّ شيء إلاّ الصواب. فهم يقولون أنّها تنحدر من أسرة قروية ميسورة، توفيت والدتها وهي لم تتعدّى بعد العاشرة من عمرها، وككلّ الرجال القرويين تزوّج والدها حتى قبل أن تمضي أربعينية والدتها، فدخلت في معركة كيد النساء دون أن تفقه في أساليبها شيئا أو تعدّ لها عدّة، فلا عجب إذا قالوا أنها كانت لا تخرج منها دائما إلاّ بالخيبة والهزيمة. وظلت مع ذلك صابرة صامدة تعدّ السنين وتعيش على أمل ذلك اليوم الذي سيطرق فيه احد ما بابهم ويأخذها معه إلى غير رجعة، وتعيش على ما اختزنته ذاكرتها من ذكريات والدتها المتوفية، غير أنّ خبث ومكر زوجة أببيها لم يمهلا الزمن الفرصة كي يكمل دورته، فجاءتها ذات يوم بقريب لها ليس فيه من علامات الرجولة سوى شاربه الطويل المفتول، وكعادتها في بداية كل أمر لا يروقها تتلقاه من زوجة زوجة والدها رفضت عويشة الانصياع لأوامرها، غير أنّ عويشة هذه المرّة كانت أكثر إصرارا وعزما على عدم الرضوخ والاستسلام لكيد هذه السليطة، فظلت تكرر رفظها مستعينة على ذلك باستدارة وإحياء آخر ما تبقى في جوف والدها من مشاعر الأبوّة المفقودة، وسرعان ما انقطعت آخر حبال الرجاء أمام حدة سكاكين الغطرسة والأنانية القاتلة وعويشة تسمع تاريخ زواجها يصبح شيئا واقعا يجثم على أنفاسها، وزوجة والدها تصحبها مرغمة عند أحد الخياطين كي تخيط لها ملابس حفل زفاف هو بالنسبة لعويشة حفل تأبين،
في يوم من أيام شهر مارس الممطرة، دقّت الطبول وارتفعت أصوات الزغاريد معلنة بذلك عن قرب يوم الزفاف، حيت اجتمع بعض أفراد عائلة العريس وعائلة زوجة والد عويشة في صالة المنزل ، في الوقت الذي انزوت فيه المسكينة في أحد أركان المطبخ أو ما يسمونه هم الكشّينة. جلست تعصر آخر ما تبقى في عينيها من دموع الأسى والحزن، أغمضت عينيها وأطلقت العنان لأفكارها كي تسافر عائدة بالزمن بضع سنين إلى الوراء، حيت كانت تجلس فوق حجر والدتها أمام صينية الشاي تحدتها عن حفلات الزفاف والأعراس، فتقوم راكضة نحو فستانها الأبيض تمثّل دور العروس تساعدها في ذلك والدتها.
كانت كلمات التهاني تأتيها من الخارج خالخناجر، فتطعنها في كل أعضاء جسدها النحيل عضوا عضوا، وأصوات الزغاريد كالدبابيس تنغرز في طبلة أذنيها فيصدر منهما طنين يشعرها بالغثيان. سمعت صوتا غير غريب يناديها من بعيد، صوت تعوّدت أن تسمعه في طفولتها كلما سالت دموعها كما هي الآن، شعرت بقشعريرة غريبة تسري في أوصالها، فما أعجب قلب الإنسان وما أغرب الأسرار التي أودعها الله فيه، فالقلوب لا تفصل بينها المسافات ولا الأزمنة أو الأمكنة. نهظت مسرعة وخرجت متسللة دون أن يراها أحد، عارية الرأس، حافية القدمين، وركضت مسرعة دون أن ترفع رأسها عن الأرض متخذة طريق المزارع والمراعي تلاحقها نظرات أبناء قريتها المستغربة، وتخطت بقدميها الحافيتين سور المقبرة القصير، ثم تابعت ركضها قاصدة قبر والدتها، حتى إذا بلغته ارتمت فوقه معانقة ثرابه تنتحب وتصرخ : أين أنت يا أمي…قومي وارمي عنك هذا التراب فابنتك تحتاجك في هذا اليوم كما لم تحتجك من قبل…اخرجي إليّ أو خذيني كي أنام في حضنك تحت هذا الثراب لعلّ العيون تغفل عنّي وتدعني وشأني…خذيني إليك فقد أنهكني الهمّ وأتعبتني هذه الحياة التي لم أحظ منها إلاّ بالشقاء تلو الشقاء…خذيني إليك لعلّي أجد في الموت ذلك الخلاص الذي ظللت أسعى إليه منذ غادرتني لتنامي تحت هذا الثراب دون أن أبلغه.
ومالت المسكينة على الجهة الموالية لرأس والدتها فقبّلتها وغادرت المقبرة متجهة نحو الطريق العام، حيت وقفت تستعطف المارّة من أصحاب السيارات و الحافلات وتستجديهم نقلها معهم بعيدا عن هذه الأرض التي لم تعش على ظهرها سوى الشقاء. وصعدت إحدى الحافلات متجهة نحو المجهول ونظرات الركاب تفترسها افتراسا من أسفل قدميها إلى قمة رأسها، كانت تسمع كلماتهم ترتفع من هذا الجانب وذاك : الله يستر..مسكينة…
شعرت بأجفانها تتثاقل فأغمضت عينيها وأسندت رأسها على زجاج النافذة وغفت في نوم عميق لم تستيقظ منه إلاّ على صوت الكريسون وهو يصيح : محطة ولاد زيان…ولاد زياّن. نزلت من الحافلة وقد عفر أقدامها تراب المقبرة، كان كلّ من وقعت عيناه عليها يخالها مجنونة، فيعطيها هذا من طعامه، وتتنحى تلك من طريقها مرعوبة لبشاعة ما آل إليه منظرها. أخذت تطوف بزوايا وأزقة وساحات المحطة باحتة لها عن ركن آمن تستودعه هذا الجسد الميت، افترشت في أحد الأركان قطع الكرطون البالية، واستلقت عليها وهي تحاول أن تتوارى عن نظرات الفضول بأطراف توبها.
ومرّ الزمن يسرع الخطى، وتعرّضت عويشة لشتى أنواع الاعتداء بدءا بالتحرش، ومرورا بالاغتصاب والتعنيف، غير أنها وجدت في هذه الحياة الجديدة نهاية لخوفها السابق الدائم من المجهول، فعلى الأقلّ هي اليوم لم تعد تنتظر مكروها بخوف وهلع بعد أن عاشت جميع أنواع المكروهات، وهاهي اليوم في الأربعينات من عمرها امرأة لا تملك من الدنيا سوى هذه الأسمال التي تحملها على جسدها النحيل، حيت لم يبقى من آثار الجمال القديم الزائل إلاّ اتساع في العينين وأهداب طوال تتدلى على خصر برزت عظامه، إختارت الجنون فاختارها واحتضنها ولم يدعها حتى جعلها مجنونة حقا.
ارتفت أصوات منبهات الحافلات لتختلط بلغط باعة التذاكر معلنة بداية يوم جديد في محطة ولاد زيان، ودبّت الحركة في جميع أركان المحطة كما هو معتاد، إلاّ ركنا واحدا استيقظ على زحمة الناس اللذين تحلقوا في ازدحام حول جسد تمدد بلا حراك على الأرض بعدما عهدوه نشيطا يسابق أشعة الشمس في القيام كلّ صباح.
وجنحت شمس ذلك اليوم إلى المغيب في غروب حزين، وكفت الشفاه عن ذكر عويشة وقصتها، فهذه هي الحياة تتسلّل إلى أجسادنا في صمت وتغادرها في صمت، وهذا الذي بين الصمتين هو ما نخطه من أحداث أو ما نسميه العمر.
ودمتم بوووود وننتظر ردودكم اخواني وخواتي الكرااام
السبت يوليو 13, 2013 2:06 am من طرف الورده
» باك المنتدى
السبت يوليو 13, 2013 1:58 am من طرف الورده
» افكار للرفوف رووعه
الجمعة يونيو 28, 2013 5:19 pm من طرف الورده
» تصميم ازياء(اول تجربه لي )
الجمعة يونيو 28, 2013 5:17 pm من طرف الورده
» طريقة عمل آيسكريم~..
الجمعة فبراير 01, 2013 10:42 pm من طرف الورده
» عندمآإ ........
الثلاثاء يناير 29, 2013 11:59 pm من طرف الورده
» يا علي ( رسمتي )
الثلاثاء يناير 29, 2013 11:55 pm من طرف الورده
» ،،دفتر حضور وغياب ارجو التثبيت ،،
الثلاثاء يناير 29, 2013 11:47 pm من طرف الورده
» عضوين في قفص المواجهه
السبت ديسمبر 29, 2012 6:52 pm من طرف الورده